سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: وأخذنا أيضًا عهدًا وميثاقًا من النصارى، الذين سموا أنفسهم نصارى؛ ادعاء لنصرة عيسى عليه السلام ولم يقوموا بواجب ذلك عملاً واعتقادًا، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد، وأن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام إن أدركوه ويتبعوه، {فنسوا حظًا مما ذُكروا به} أي: نسوا ما ذكرناهم به، وتركوا حظًا واجبًا مما كلفوا به، {فأغرينا} أي: سلطنا {بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}، فهم يقتتلون في البر والبحر، ويتحاربون إلى يوم القيامة، فكل فرقة تلعن أختها وتكفرها، أو بينهم وبين اليهود، فالعداوة بينهم دائمة، {وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} بالجزاء العقاب.
الإشارة: يؤخذ من الآية أن من نقض العهد مع الله؛ بمخالفة ما أمره به أو نهاه عنه. أو مع أولياء الله، بالانتقاد عليهم وعدم موالاتهم، ألقى الله في قلب عباده العداوة والبغضاء له، فيبغضه الله، ويبغضه عبادُ الله، ومن أوفى بما أخذه الله عليه من العهد بوفاء ما كلفه به، واجتناب ما نهاه عنه، وتودد إلى أوليائه، ألقى الله في قلب عباده المحبة والوداد، فيحبه الله، ويحبه عباد الله، ويتعطف عليه أولياء الله، كما في الحديث: «إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريلُ، إنَّ اللهَ يحبّ فلانًا فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ. ثم يُنَادِي في الملائكة: إن اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فأحِبُّوه. فيُحِبُّه أهلُ السَّمَاءِ، ثم يُلقَى له القَبولُ في الأرض».. الحديث.


قلت: الضمير في: {به}، يعود إلى النور والكتاب، ووحَّدَه؛ لأن المراد به شيء واحد، لأن النور هو الكتاب المبين، أو لأنهما جنس واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أهل الكتاب} اليهود والنصارى {قد جاءكم رسولنا} محمد صلى الله عليه وسلم {يُبين لكم كثيرًا مما كنتم تُخفون من الكتاب} كصفة محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم التي في التوراة، وكبشارة عيسى بأحمد التي في الإنجيل، {ويعفو عن كثير} مما تخفونه وتحرفونه، فلم يخبر به، ولم يفضحكم، حيث لم يؤمر به، أو عن كثير منكم، فلا يؤاخذه بجرمه وسوء أدبه معه.
{قد جاءكم} يا أهل الكتاب {من الله نور وكتاب مبين}، عطف تفسير، فالنور هو الكتاب المبين، أو النور: محمد عليه الصلاة والسلام والكتاب المبين: القرآن؛ لأنه الكاشف لظلمات الشك والضلال، والواضح الإعجاز والبيان، {يهدي به الله من اتبع رضوانه} أي: من اتبع رضى الله بالإيمان به، والعمل بما فيه، {سُبل السلام} أي: طريق السلامة من العذاب، أو طرق الله الموصلة إليه، {ويخرجهم من الظلمات إلى النور} من ظلمات الكفر، إلى نور الإسلام {بإذنه} أي: بإرادته وتوفيقه، {ويهديهم إلى صراط مستقيم} أي: طريق توصلهم إليه لا عوج فيها.
الإشارة: قد أطْلَع الله علماء الباطن على مقامات علماء الظاهر وأحوالهم وجل مساوئهم، ولا سيما من كان عالمًا بالظاهر ثم انتقل إلى علم الباطن، كالغزالي وابن عباد وغيرهما. فقد تكلم الغزالي في صدر الإحياء مع علماء الظاهر، ففضح كثيرًا من مساوئهم. وكذلك ابن عباد في شرح الحكم، وعفوًا عن كثير فهم على قدم رسول الله صلى عليه وسلم وخواص ورثته، لأنهم حازوا الوراثة كلها، كما في المباحث:
تَبِعَةُ العَالِم في الأقوَال *** والعَابِد الزَّاهِد في الأفعَال
وفِيهما الصُّوفِيُّ في السباق *** لكنَّه قّد زَادَ بالأخلاَق
فالولي نور من نور الله، وسر من أسراره، يُخرج به من سبقت له العناية من ظلمات الحجاب إلى نور الشهود، ويهدي به من اصطفاه لحضرته تعالى طريق الوصول إليه. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}، والقائل بهذه المقالة هي الطائفة اليعقوبية من النصارى، كما تقدم. وقيل: لم يصرح بهذه المقالة أحدٌ منهم. ولكن لزمهم حيث قالوا بأن اللاهوت حل في ناسوت عيسى مع أنهم يقولون الإله واحد، فلزمَهم أن يكون هو المسيح، ولزمهم الاتحاد والحلول؛ فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحًا لجهلهم، وتقبيحًا لمعتقدهم.
ثم رد عليهم بقوله: {قل فمن يملك من الله شيئًا} أي: من يمنع من قدرته وإرادته شيئًا، {إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا}، وبيان الرد عليهم: أن المسيح مقدورٌ ومقهور، قابل للفناء كسائر الممكنات، ومن كان كذلك فهو معزول عن الألوهية. ثم أزال شبهتهم بحجة أخرى فقال: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما}، يتصرف فيهما كيف شاء، {يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير}؛ فقدرته عامة؛ فيخلق من غير أصل؛ كالسماوات والأرض، ومن أصل؛ كخلق ما بينهما، وينشىء من أصل ليس هو جنسه؛ كآدام وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه، إما من ذكر وحده؛ كحواء، أو من أنثى وحدها: كعيسى، أو منهما؛ كسائر الناس. قاله البيضاوي:
الإشارة: قد رُمي كثير من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول؛ كابن العربي الحاتمي، وابن الفارض، وابن سبعين، والششتري والحلاج، وغيرهم رضي الله عنهم عنهم وهم بُرءاء منه. وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد، وكُوشفوا بأسرار التفريد، أو أسرار المعاني قائمة بالأواني، سارية في كل شيء، ماحية لكل شيء، كما قال في الحِكَم: (الأكوان ثابتة بإثباته ممحوه بأحدية ذاته) فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها؛ لأنه خارجة عن مدارك العقول، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول. وإنما هي أذواق ووجدان؛ فمن عبَّر عنها بعبارة اللسان كفَّر وزندق، وهذه المعاني هي الخمرة الأزلية التي كانت خفية لطيفة، ثم ظهرت محاسنها، وأبدت أنوارها وأسرارها، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات، فمن عرفها وكوشف بها. اتحد عنده الوجود، وأفضى إلى مقام الشهود. وهي منزهة عن الحلول والاتحاد، إذ لا ثاني لها حتى تحل فيه أو تتحد معه، وقد أشرت إلى هذا المعنى في تائيتي الخمرية، حيث قلت:
تَنَزَّهت عن حُكمِ الحلول في وَصفِها *** فليسَ لها سِوَى في شَكلِه حَلَّتِ
تَجَلَّت عَرُوسًا في مَرَائي جَمَالِها *** وأرخَت سُتَور الكبرِياءِ لعِزَّتِي
فَمَا ظَاهِرٌ في الكَونِ غيرُ بهائها *** وما احتَجَبَت إلا لَحجِب سَرِيرتِي
فمن كوشف بأسرار هذه الخمرة، لم ير مع الحق سواه. كما قال بعضُ العارفين: (لو كُلفتُ أن أرى غيره لم أستطع؛ فإنه لا غير معه حتى أشهده). ولو أظهرها الله تعالى للكفار لوجدوا أنفسهم عابدة لله دون شيء سواه، وفي هذا المعنى يقول ابن الفارض على لسان الحقيقة:
فما قَصَدُوا غيرَه وإن كان قَصدهُم *** سِوَاي وإن لم يُظهِروا عَقدَ نِيّه
والنصارى دمرهم الله في مقام الفرق والضلال حملهم الجهل والتقليد الرديّ على مقالاتهم التي قالوا في عيسى عليه السلام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8